الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

صـورة الأقـدار ..6...بقلم...محمد دحروج‏


صـورة الأقـدار ... 14 سبتمبر 2018
...  6

 ـ
ثمَّ انتبهتُ إلَى صوتِ طائرٍ يُحلِّقُ بهذا الليل فوق هذه الأرض المُعتمة فأخذنِي صوتهُ إلَى زمنٍ بعيدٍ ضربت جُذُورُهُ في المُستقبلِ فكأننِي عُدتُ إلَى لحظةٍ من أعظمِ لحظاتِ حياتِي إذ تخيلتُني ذِكرى قد غَدَت وطواها ضميرُ الماضِي وهو الجالسُ فوق صخرةِ المَرارِ والألَمِ يحكي عنِّي ، وما هُو إلاَّ أنا ؛ غير أنني غِبتُ عن نفسِي فأسلمتُ لسانِي لذلك الوجدانِ يُحرِّكُهُ كيفَ شاءَ ، وإذا بالجالسِ يتحدَّثُ فما لِي عليه من سُلطانٍ ، وإنمَّا هُوَ سُلطانُ الوجعِ يذهبُ بِي مذاهبه .
اسمَع يا عُمَر .. لقد كانَ هذا الفتَى نوعًا من الرِّجالِ يختلف عن القاعدة التِي هي قُوَّةٌ وضعفٌ ؛ فلقد كان قُوَّةً ذكيَّةً ماكرةً تُحسنُ استخدامَ العقلِ فكأنك إذ تُبصرُهُ في هذا الوقت الذي هو منشغلٌ فيه بما يُريدُ أن يصنع وما يُريد أن يهدم فكأنك تنظرُ إلَى شيطانٍ حكيمٍ رُبِّي من قَدِيمٍ في سماواتِ اللهِ فلا تقدرُ إلاَّ أن تخضع للذكاءِ ليقينكَ أنهُ لا يجيءُ إلاَّ من قلبِ إنسانٍ يعرفُ معنى الإنسانيَّة غير أنه شيطانٌ يَلِجُ إلَى مآربهِ كالأفعى حين تخرُجُ من جلدها في سُهُولةٍ تُضرَبُ بها الأمثالُ ، ولقد كان رِقَّةً لو أنَّ نَفَسَ صبيٍّ بالمهدِ مرَّ عليها لَبدَّدَهَا إِذ كانَ مُولعًا بالسَّلامِ مُحبًّا لهدأةِ الخاطرِ رَاميًا سَهْمَ الرَّغبةِ نحو العُزلةِ المقرُونة بالحُزنِ كارهًا لإيذاءِ الناس مُبغضًا لكُلِّ امريءٍ ينظرُ إلَى ما لَيسَ لهُ يبغيهِ بالبطشِ أو بالمكرِ .
هاه !، ماذا قالَ ؟!.. ( فكأنك تنظرُ إلَى شيطانٍ حكيمٍ ) .. لا ، لا ، هذا كَذِبٌ ؛ لقد كانَ عبدًا مُؤمنًا تقيًّا نقيًّا ، وأرادت الأيامُ أن تُغيِّرَ من معانيه ليُصبحَ زنديقًا وعبدًا آبقًا فاجرًا مُلوَّثًا ؛ غير أنهُ كانَ آيةً من التناقُض صنعتها أحوالُهُ وعبَّدت طريقها أيامُهُ ، فهُوَ يُريدُ من الحياةِ ما يُريدُ ، غير أنهُ عاشَ مُخلصًا لفكرةِ النقاءِ ، وكانَ هذا أمرًا جميلاً ، غير أنَّ الفتنةَ مزلَّةُ أقدام ، وغير أنَّ البلاءَ قمينٌ بالفتنةِ ، وكانَ ما أرادتهُ الدُّنيا التِي فرضت عليهِ ما فرضت وأوجبت ما أوجبت ، فخرجَ ظافرًا بما أرادَ مُحاطًا بكثيرٍ من ذلك الذي كان يشعُرُ أنهُ يُزيلُ صفاءَ نفسهِ ونقاءَ ضميرهِ ... تلكَ هيَ الحقيقة ؛ غيرَ أنَّ الإنسانَ متَى أُولِعَ بالنَّدَمِ ارتقى عقلهُ فطهُرت أركانهُ وصحَّ وجدانهُ ، غيرَ أنَّ الطريقَ كانَ يُخرجُ إليهِ بين كلِّ طرفةِ عينٍ وأُخرَى ما يُزلزلُ ثباتهُ ويُعيدُ إليه ضعفَهُ ، فكان أمرُهُ دائمًا أبدًا بين السُّقُوطِ والصُّمُودِ ، فلا هُوَ بنبِيِّ الترفُّعِ ولا هُوَ بشيطانٍ من شياطينِ الشَّهواتِ .
ها هُوَ يزلُّ فيبكي ، ويرتقي فيحُنُّ إلَى دُنيا الفتنةِ ، ومضت أحوالهُ هكذا وهكذا ، ولو أنهُ صادفَ عالَمًا صادقًا ووجُوهًا بريئةً لاطمأنَّت نفسُهُ ولو عاشَ على الحجارة ؛ غير أنَّ الحكمة أرادت أن ينغمسَ في قلب الفتنةِ انغماسًا ، فلمَّا آمنَ أنهُ من آكلِي ثمرِ الشَّجرةِ المُحرَّمة قالَ لا أخرُجُ منها حتَّى أظفرَ بكُلِّ ما أشتهي ، فما دُمتُ خَسرتُ فلا أُبقينَّ على حاجةٍ من حاجاتِ النفسِ التِي كانت مُطمئنَّةً فغدت أمَّارةً بالسُّوءِ ، على أنَّ اللوَّامةَ تجيءُ لتقفَ بالمشهدِ في كُلِّ ساعةٍ من ساعاتِ أيامهِ .
هل سمعتَ عن أحدٍ يشمتُ في مأسُورٍ أُخِذَ ظُلمًا وجورًا ؟ .. لا ، ما سمعنا ؛ غير أنهُ المأسُورُ كانَ يمُارسُ كُلَّ يومٍ غوايتَهُ ، وكانَ يُرسِلُ شياطينهُ في الأرضِ كى تُستباحَ الأماكنُ ؛ غيرَ أنهُ كانَ يُصلِّي إِذا ما جاءَ السَّحَرُ ، وكانَ يبكِي صادقًا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق